عمارة كربلاء دراسة عمرانية وتخطيطية 257

الفصل الخامس

عمارة كربلاء

دراسة الواقع العمراني الحالي للمدينة والاسس العلمية لاعادة تخطيطها وتطويرها

توطئة :

إن موضوع هذا الفصل يتعلق بدراسة الواقع العمراني الحالي للمدينة ، ومشروع التصميم الاساسي الجديد وتطوير مركز المدينة الذي يشمل المنطقة الواقعة بين جامعي ومرقدي الإمام الحسين وأخيه العباس (الروضتين الحسينية والعباسية) وما يحيطهما ، حيث يحتل المركز من الناحية العمراينية موقعاً بارزاً ومتميزاً في هيكل وبنية مدينة كربلاء.
لقد كانت هذه المنطقة من ناحية الهيكل العمراني ، قبل تدميرها ، بمثابة وحدة عمرانية متكاملة محورها الروضتان معاً. لكن هذا التمحور يأخذ بعداً شاملاً وعميق الجذور في نفس الوقت ، نظراً لأن العلاقة بينهما تتجاوز البعد الخارجي أو الظاهري ، لتصل إلى حد الترابط العضوي بينهما وإلى حد التكامل. وقد أنعكست تلك العلاقة المحورية للروضتين ومحيطهما عمرانياً على مدينة كربلاء ككل.

عمارة كربلاء دراسة عمرانية وتخطيطية 258

أما من الناحية العمرانية ، فإن الترابط العضوي بين عمارة الروضتين والمناطق المحيطة بهما يبدو حياً ودائم التفاعل بذاته في إطاريه الخاص والشامل.
فإذا كانت حيوية المنطقة الواقعة بين الروضتين وما يحيطهما ، ناشئة من علاقتها بالروضتين ، فإن مدينة كربلاء ككل تبدو أيضاً حيوية لعلاقتها بذلك المركز. وهذا التفاعل يبدو واضحاً في كافة المجالات الأقتصادية والأجتماعية والثقافية والعمرانية.
أولاً: من الناحية الأقتصادية ، كانت هذه المنطقة ، وإلى سنوات قريبة ، عصب الحياة التجارية للمدينة بمظاهرها المختلفة التقليدية منها أو الحديثة ، حيث كانت أنتشر الأسواق التي تزدحم بالزوار وسكان المدينة طيلة أيام السنة.
ثانياً: من الناحية الأجتماعية : كانت هذه المنطقة بمكانتها العريقة وتقاليدها المتوارثة تمنح مدينة كربلاء هويتها المحافظة ، وكانت إلى سنوات قريبة مركز تجمع سكان المدينة ومحور حياتهم الأجتماعية.
ثالثاً: من الناحية الثقافية : كانت هذه المنطقة المتمثلة بالروضتين وبالمدارس الدينية والبيوتات الثقافية ، تمنح كربلاء خصوصيتها كمدينة مفتوحة على تيارات الثقافات الخارجية (الفارسية والتركية والهندية مثلاً) وحتى على بعض الأفكار السياسية.
رابعاً: أما من الناحية العمرانية : وهو ما يهمنا بشكل خاص في هذا الفصل ، فإن هذه المنطقة تعتبر قلب المدينة ومركز الحركة الرئيسية فيها والذي تتفرع منه جميع الشوارع والأسواق المهمة في المدينة.
فبالأضافة إلى عمارة الروضتين كانت المنطقة تضم أيضاً معظم الرصيد العمراني الذي تمتلكه مدينة كربلاء ، والمتمثل في أبنية ذات قمية عمرانية

عمارة كربلاء دراسة عمرانية وتخطيطية 259

وحضارية وتراثية ، كالمساجد والمدارس الدينية والحسينيات والمقامات والأسواق القديمة والقيساريات والخانات والبيوت التراثية. وعلى العموم فإن المنطقة كانت تمثل أصالة وحيوية الإرث الحضاري العمراني الذي تميزت به كربلاء عن غيرها من المدن الإٍسلامية الأخرى. لكن هذه المدينة تعرضت من الناحية العمرانية لأضرار جسيمة خلال السنوات الماضية ، خصوصاً بعد عام 1991م إلى درجة يمكن القول معها بأنها ، أو بعض مظاهرها الرئيسة على الأقل ، مهددة بوجودها وإرثها التاريخي. وهي على العموم تعاني من مشاكل حادة تتطلب جهوداً حثيثة وحلولاً عملية لإعادة تخطيطها وتصميمها وصيانة وترميم مبانيها الدينية والتراثية المتبقية.
إن أبرز مشاكل مدينة كربلاء القديمة تتجسد الواقع ، بتحويل المنطقة (مركز المدينة) التي كانت غنية بالإرث العمراني لقرون عديدة ، إلى ساحة واسعة تحيطها الفنادق والمحلات التجارية التي شيدت بدون دراسة عمرانية وتخطيطية مسبقة ، وذلك بعد أن أزيلت منها جميع الأبنية القديمة التي كانت تقع بين الروضتين وما حولهما. كما تعاني أيضاً في محيطها من حركة بناء عشوائي وهجين ينفذ حالياً ، مما يهدد بتعريض المدينة القديمة إلى فقدان خصائصها العمرانية الأساسية والتي كانت تمنحها هويتها التاريخية والحضارية والدينية.
إن هذه المنطقة تكتسب أهمية مركزية وذلك بسبب تدمير جميع مراكز الفعاليات التجارية التي كانت تنهض بها سابقاً ، وإلى قرون عدة ، والتي أكسبتها موقعها الخاص كنقطة التمحور في العلاقة الحيوية بين المدينة القديمة والمناطق المحيطة بها وخاصة الأحياء الجديدة. من هنا جاء تأكيدنا على الأهمية الكبيرة لإعادة إحياء مركز المدينة بأعتباره الضمانة الجوهرية لإعادة إحياء تلك الفعاليات التي كانت تقوم بها الأسواق والقيساريات ، لتكون من جديد نقطة ترابط المركز مع المناطق الأخرى من المدينة.

عمارة كربلاء دراسة عمرانية وتخطيطية 260

وبالإضافة إلى كل ذلك فإن الشخصية العمرانية التاريخية لمدينة كربلاء ترتكز أساساً على هذه المنطقة. ويصح هذا حتى من ناحية التصميم المعماري البحث ، ذلك لأن هذه المنطقة تمثل النقطة المركزية في (المشهد البصري) للتصميم العمراني للمدينة. كما أن الروضتين والمناطق المحيطة بهما ، فإنها في الواقع تمثل مدينة كربلاء القديمة.
إن المدينة ككل تحتاج إلى دراسة تتضمن وضع الأسس العلمية لإعادة تخطيطها الذي ينبغي أن يتجاوب بشكل عميق مع السمات الأساسية للبيئة العمرانية التقليدية للمدينة القديمة.
ويتضمن هذا الفصل:
  • تحليل الوضع العمراني الحالي لمركز المدينة والمناطق المحيطة به.
  • الأعتبارات المعمارية والتخطيطية المقترحة لتطوير مركز المدينة والمناطق المحيطة به.
  • الأسس العلمية لإعادة تخطيط وتطوير مدينة كربلاء.

    عمارة كربلاء دراسة عمرانية وتخطيطية 261

    تحليل الوضع العمراني الحالي لمركز المدينة والمناطق المحيطة به

    بعد دراسة الجوانب التاريخية والعمرانية المكونة لمدينة كربلاء ، تتناول هنا طبيعة الضغوط والمؤثرات والمشاكل القائمة حالياً في المدينة لتحديد أهمية كل منها وتلمس أبعاده.
    وتتضمن أهم تلك الجوانب ما يلي :
    1ـ الوضع الحالي للتكوين الفضائي العمراني للمدينة القديمة.
    2ـ استعمالات الأرض.
    3ـ حالة الأبنية في المدينة القديمة.
    4ـ البيئة والنسيج العمراني.
    5ـ حركة المركبات والمشاة ومواقف السيارات.
    6ـ إمكانية جعل المدينة مكاناً أو مركزاً للسواح والزوار.
    7ـ الخليفة التاريخية للطابع المعماري التقليدي للمدينة.
    8ـ العوامل التي أثرت على التركيبة السكانية للمدينة.

    عمارة كربلاء دراسة عمرانية وتخطيطية 262

    1ـ الوضع الحالي للتكوين الفضائي العمراني للمدينة القديمة

    يعتبر مدينة كربلاء نموذجاً لمن الأضرحة في العراق ، إضافة إلى النجف الأشرف ، والكاظمية وسامراء. وتحتل المدينة القديمة ضمن الطريق الدائري (شارع المحيط) الذي يحيط بها ، مساحة تقدر بأكثر من كيلومتر مربع ، يتوسطها جامعا ومرقدا الإمام الحسين وأخيه العباس (عليهما السلام ) . ويمر الطريق الدائري في أغلب مساره محاذياً للمناطق الخضراء. والتي تحيط بالمدينة ما عدا الجزء الغربي والجنوب الغربي منها ، مما ساعد على التوسعات العمرانية الكبيرة الحديثة في هذين الجزئين.
    إن دراسة أبعاد المدينة القديمة بالنسبة إلى مركز تكوينها وهما الروضتان والساحة الواسعة التي تقع بينهما تظهر ، أن حدود المركز تبعد عنه بمسافة تتراوح بين 400 متر تقريباً بأتجاه منطقه المخيم وباب الخان ، إلى 800 متر تقريباً بأتجاه باب الطاق وباب بغداد. وهي ضمن حدود مسافة السير المقبولة للإنسان. أي أن حجم وشكل المدينة يعتمد أساساً على المقياس الإنساني لحركة المشاة (Pedestrian - scaled environment) وهي خاصية يمكن أستثمارها في إبعاد حركة المركبات عن قلب المدينة إلى الشارع الذي يحيط بها ، لا سيما في المناسبات الدينية المهمة ، وتخصيص بعض شوارعها لحركة المشاة فقط ، وخاصة القريبة من المركز.
    وبرغم أن سمات التكوين الفضائي العمراني لمركز مدينة كربلاء يمكن تلمسها على ضوء سمات مراكز المدن الدينية في العالم الإسلامي ، إلا أن هناك خصائص تكتسب طابعاً مميزاً ، مما يجعل من كربلاء نموذجاً مختلفاً عن بقية المراكز الدينية الأخرى ، ويتمثل في كون المسجد الجامع أو المرقد في المدن الدينية الأخرى يمثل قلب المدينة ، بينما في مدينة كربلاء فإن جامعي ومرقدي

    عمارة كربلاء دراسة عمرانية وتخطيطية 263

    الإمام الحسين وأخيه العباس (ع) والساحة الواسعة بينهما تمثل جميعاً سمات التكوين الفضائي العمراني لمركز المدينة.
    لذا تشكل الروضتان اللتان يتجاوز أرتفاع مأذنهما 39 متراً ، وقبتيهما 32 متراً تقريباً ، العناصر المهيمنة على هيئة وتكوين المدينة وظيفياً وبصرياً وعلى خط سماء المدينة (Sky line) .
    إن ملامح هذا التكوين وخصائصه تمثل بذاتها عنصراً أساساً في مشروع عملية التجديد العمراني للمدينة ومركزها من أجل الحفاظ والتأكيد عليه. إن التوجه الحالي في ترك الساحة ، وبدون دراسة مسبقة من الناحية التخطيطية والمعمارية ، سيؤدي حتماً إلى إضعاف هيمنة جلال الروضتين وحرمتهما ضمن المحيط الحالي غير المتجانس.

    2ـ أستعمالات الأرض

    تظهر دراسة المدينة ومركزها من الناحية العمرانية أن هناك ثلاثة أنماط رئيسية من أستعمالات الأرض تهيمن على تكوينها وتحدد ملامح شخصيتها العمرانية كأنعكاس لأهميتها الدينية :
    أـ المراقد والمباني الدينية والتقليدية : الروضتان الحسينية والعباسية : تتوسط هاتان الروضتان المدينة القديمة لتكونان من الساحة الواسعة بينهما قلب المدينة العمراني ، فيما تظل الروضتان العنصرين المؤثرين في تكوين المدينة وظيفياً وبصرياً.
    المساجد والحسينيات والمدارس الدينية والمباني التقليدية : من الملاحظ قبل تهديم المركز بين الروضتين وما يحيطهما أن المباني الدينية ، بالإضافة إلى المباني التقليدية الأخرى ، كانت تتركز حول الروضتين ثم نقل كثافتهما

    عمارة كربلاء دراسة عمرانية وتخطيطية 264

    بالأبتعاد عنهما. كما أن هذه الأبنية بالإضافة إلى الروضتين تعكس خصوصية المدينة الدينية.
    ب الأستعمال التجاري : تمثل التجارة النشاط الأقتصادي الأساسي للمدينة ويعمل فيها أكثر من 45% من سكان المدينة القديمة تقريباً. ويعود ذلك إلى أعتماد السكان على الفعاليات التجارية أساساً بسبب تدفق الزوار بشكل مستمر طوال السنة على كربلاء. وتزداد أعدادهم من 5 8 أضعاف في الزيارات الأسبوعية والموسمية وترتفع إلى مائة ضعف تقريباً في المناسبات الدينية المهمة كزيارة نصف شعبان والعشرة أيام الأولى من شهر محرم الحرام وأربعينية الإمام الحسين (ع) . وتتميز المناطق التجارية في المدينة بوجود نمطين أساسيين هما:
    الاسواق التقليدية : وكانت تتجسد فيها سمات الأسواق الشرقية ، وكان أبرزها سوق التجار وسوق الحسين وسوق العباس ، ولكنها أزيلت بعد عام 1991م ، بعد أن كانت تشكل ، مع بعض الأسواق الاخرى ، هيكلاً متجانساً مع الروضتين وبقية الأبنية الأخرى ، ويعزى ذلك إلى أرتباط هذه الأسواق بالمحاور الرئيسية لحركة المشاة المؤدية إلى الروضتين ، وتوجد إلى جانب هذه الأسواق الكبيرة أسواق تقليدية أخرى تعتبر محاور تجارية جانبية ترتبط بالمناطق التجارية الرئيسية والأحياء السكنية وتؤدي إلى المداخل الرئيسية للروضتين ، مثل سوق المخيم وسوق باب الخان وغيرها.
    المناطق التجارية : وتشمل الشوارع المحيطة بالروضتين ، وكذلك الشوارع المؤدية إليهما والتي تم شقها منذ عام 1980م كالساحة الواسعة بين الروضتين وشارع باب السلطانية ، وكذلك الشوراع التي تم توسيعها منذ عام 1955م كشارع العباس ، وشارع باب القبلة ، وشارع السدرة ، وشارع العلقمي وغيرها. ويستخدم الطابق الأرضي للأبنية الواقعة على هذه الشوارع للأستعمالات التجارية والخدمية الأخرى ، أما الطوابق العلوية فتضم الفنادق والشقق السكنية والمكاتب المهنية.

    عمارة كربلاء دراسة عمرانية وتخطيطية 265

    وفي السنوات الأخيرة ، بعد إزالة الأسواق الكبيرة في مركز المدينة ، وخاصة بعد شهر آذار من عام 1991م ، تحولت بعض الشوارع داخل المدينة وخارج مركز المدينة إلى مراكز تجارية ، وخاصة الشارع المؤدي إلى مدينة الهندية أو (طويريج) . وإلى جانب هذين النمطين الأساسين ، فقد أخد نمط آخر بالظهور وبشكل متزايد مؤخراً ، ويتمثل بالمناطق التجارية المتداخلة مع الأحياء السكنية بسبب نمو النشاط التجاري الذي جاء نتيجة ضغط الحاجة إلى مناطق تجارية لخدمة زوار المدينة وسكانها. وتنتشر هذه المناطق في أحياء باب بغداد ، العباسية بطريفيها ، باب الخان ، باب الطاق ، باب النجف ، المخيم ، والأحياء الجديدة.
    ج الأستعمال السكني : يغطي الأستعمال السكني للأرض نسبة 75% تقريباً من النسيج العمراني التقليدي للمدينة القديمة. وكانت المناطق السكنية تمتد إلى مسافات قريبة جداً من الجدران الخارجية للمرقدين. ولكن بسبب هدم مركز المدينة بعد عام 1991م أصبحت الساحة الواسعة بين الروضتين وحولهما تفصل هذه المناطق عن الروضتين. وتفتقر هذه المناطق السكنية عموماً إلى المستلزمات الضرورية كالصيانة والترميم .

    3ـ حالة الأبنية في المدينة القديمة

    يختلف تصنيف حالات الأبنية حسب المسح والمعايير المستخدمة في التقييم . وعموماً فإن 65% من الأبنية في المدينة القديمة قديم ومتآكل ورث وخاصة الأبنية القريبة من المركز. أما الأبنية ذات المستوى المقبول فتشكل نسبة 25% ، بينما تشكل الأبنية الحديثة نسبة 10% من المجموع الكلي للأبنية. وقد زادت نسبتها بعد عام 1997م ، وخاصة التي تقع على الساحة الواسعة وفي الصف الأمامي من الشوارع الحديثة والشوارع التي تم توسيعها في السنوات الأخيرة ، وهي أبنية ذات طرز معمارية لا تتوافق مع النسيج العمراني للمدينة القديمة.

    عمارة كربلاء دراسة عمرانية وتخطيطية 266

    إن القيمة التاريخية والمعمارية للموروث الحضاري والنسيج العمراني التقليدي للمدينة تطرح أهمية وضرورة تطوير سياسة متكاملة للحفاظ والتطوير تتضمن مساحات واسعة متماسكة منه بحيث تعبر عن الخصائص التقليدية والهوية المحلية للمدينة. والواقع أن الكثير من الأبنية التراثية بحاجة إلى إجراءات للصيانة والترميم بأستمرار للحفاظ عليها.

    4ـ البيئة والنسيج العمراني

    تعتبر مدينة كربلاء من المدن التي حافظت على نيسجها العمراني نسبياً ، لأسباب دينية وتاريخية ، وبسبب موقعها الأستراتيجي لقرون عديدة. إلا أن التخريب الذي لحق بها منذ العام 1980م ترك إشارته الواضحة على عمارتها التقليدية القديمة ، بشكل أخذ يهدد خواصها وهويتها الإسلامية بالتغيير ما لم تتخذ إجراءات فعالة للحفاظ عليها ، ولإعادة الجزء المتهدم منها وفق أسس علمية ، وصيانة الجزء المتبقى منها.
    ويمكننا القول أن أبرز حدث في تاريخ المدينة المعاصر ، والذي أثر بشكل جوهري في نسيجها العمراني هو: تهديم مركز المدينة بشكل كامل وإزالة المناطق الواقعة ما بين الروضتين وما حولهما.
    لقد أدى ذلك إلى إزالة أحد أهم سمات المركز التاريخي لمدينة كربلاء ، كإحدى أهم المدن الدينية في العالم الإسلامي ، مما أدى إلى تلاشي هيمنة فضائي صحني الروضتين ، وهما أوسع فضاءين في المدينة حتى وقت قريب ، على التكوين الفضائي للمدينة ، خاصة بعد التوسع في هدم المنطقة الواقعة ما بين وحول الروضتين وإنشاء الساحة الواسعة. ولم يقتصر الضرر على ذلك ، إذ أن ظهور واجههات الروضتين إلى الخارج دعا إلى التعامل معهما كنصب (monumental) ومعالجة واجهاتهما الخارجية وفق هذا المفهوم .

    عمارة كربلاء دراسة عمرانية وتخطيطية 267

    إن أبرز الخصائص الفريدة للنسيج العمراني للمدينة هو هيمنة عمارة الروضتين على النسيج العمراني التقليدي الذي تتشعب فيه الممرات الرئيسية لحركة المشاة من الروضتين ، بحيث تشكل عنصراً رابطاً بينهما وبين المناطق المحيطة بهما ، إلا أن هذه الخاصية قد تلاشت تماماً بعد إزالة جميع المباني الواقعة ما بين وحول الروضتين.

    5ـ حركة المركبات والمشاة وموقف السيارات

    أ شبكة سير المركباة : تتكون شبكة سير المركبات في المدينة القديمة من نمطين أساسيين هما:
    1ـ شبكة السير الواقعة ضمن المباني التقليدية للأحياء السكنية والتي تتمثل في الشوارع القديمة من المدينة ومعظمها شوارع ضيقة.
    2ـ الشوارع التي تم شقها حديثاً في جسم المدينة القديمة وكذلك الشوارع التي تم توسيعها وتلتقي جميعها في قلب المدينة ، إضافة إلى الطريق الدائري المحيط بالمدينة.
    وترتبط هذه الشبكة بالطرق الخارجية التي تربط المدينة بالمدن الأخرى ، والتي تصب جميعها في المدينة القديمة. وكانت تحت أختناقات مرورية وخاصة في الشوارع المؤدية إلى مركز المدينة. وفي السنوات الثلاثة الأخيرة تم منع دخول السيارات إلى المركز.
    ب حركة المشاة : كانت هناك مشاكل قائمة في سير واتجاهات حركة المشاة في مركز المدينة ، وخصوصاً أيام المناسبات الدينية المهمة. وعلى الرغم من شق الشوارع الجديدة وتوسعه بعض الشوارع القديمة وأستحداث الساحة الواسعة بين الروضتين ، إلا أن حركة المشاة ، وخاصة المواكب الدينية في مركز المدينة والمناطق المحيطة بها لم تجد الحلول المناسبة لها

    عمارة كربلاء دراسة عمرانية وتخطيطية 268

    وتعاني محاور حركة المشاة بشكل عام في تأثير تداخلها وتناقضها مع حركة المركبات وخاصة في الشوارع المؤدية إلى مركز المدينة.
    ج مواقف السياراة : يتميز في المدينة القديمة نمطان من مواقف السياراة :
    1ـ فضاءات المواقف ضمن الشارع (on street parking) ، حيث تنتشر هذه المواقف في معظم شوارع المدينة ، وخاصة المؤدية إلى الروضتين.
    2ـ فضاءات المواقف في جانب الشارع (off street Parking) ، وهذه المواقف قليلة جداً لا تتناسب وعدد السيارات التي تصل إلى المدينة في الأيام الأعتيادية والعطل الأسبوعية.
    ولا توجد سياسة واضحة لإدارة وتنظيم وقوف السيارات وإيجاد مبانٍ خاصة لوقوفها في محيط المدينة. كما أن عدم وجود حلول مؤقتة لتخطيط المدينة القديمة ، ومنها المركز قد تسبب في أختناقات حادة داخل المدينة.
    د مواقف النقل العام: ترتبط خطوط النقل الخارجي بمواقف لا تتناسب وعدد زوار المدينة والخدمات المقدمة فيها ، مما يسبب إرباكاً في حركة السيارات والمشاة ومن هذه المواقف ، الكراج العام عند بداية الطريق المؤدي إلى الحلة.

    6ـ إمكانية جعل المدينة مكاناً أو مركزاً للسواح والزوار

    تقوم زيارة مدينة كربلاء على أساسين هما:
    الأول: الديني ، وهي لزيارة المراقد المقدسة والمعالم الدينية الأخرى. وترتبط حركة الزوار عادة بهذه الأماكن وبالمناطق التجارية كالأسواق الرئيسية في المدينة.

    عمارة كربلاء دراسة عمرانية وتخطيطية 269

    الثاني : سياحي وتستهدف هذه الزيارة مشاهدة المعالم السياحية للمدينة ، والتي تشمل المراقد المقدسة والمباني الدينية والتراثية والآثارية.
    وبموجب إحدى الدراسات الميدانية عن مدينة كربلاء ، تبين أن عدد الزوار في الأيام الأعتيادية يبلغ 11 ألف زائر تقريباً ، يومياً ، كمعدل عام . ويبلغ في أيام الخميس والجمعة حوالي 50 ألف زائر تقريباً ، أما في الزيارات الموسمية كعيد الأضحى المبارك ، وعيد الفطر المبارك ، فيتراوح ما بين 80 100 ألف زائر تقريباً. وفي المناسبات الدينية المهمة ، كزيارة نصف شعبان والأيام العشرة الأوائل من شهر محرم الحرام وأربعينية الإمام الحسين (ع) (عشرين من صفر) ، فيبلغ عدد الزوار ما بين المليون إلى المليون ونصف المليون زائر تقريباً ، وقد يصل أحياناً إلى ثلاثة ملايين زائر. وقسم من هؤلاء الزوار تكون فترة بقائهم ما بين يومين إلى خسمة ايام . وقسم منهم تكون فترة بقائهم خلال النهار أو المساء فقط.
    ونستنتج مما سبق ، هناك حاجة ماسة لتوفير فضاءات واسعة لأستيعاب هذه الاعداد من الزائرين ، وتقديم الخدمات الضرورية لهم خلال مدة بقائهم في المدينة ، إذ ينبغي توفير فضاءات مسقفة وأمكان للإقامة المؤقتة بالقرب من الروضتين والمناطق المحيطة بهما. وفي الوقت نفسه أن تكدس الزوار على الأرصفة المحيطة بهما يخلق وضعاً صعباً لا يتناسب وأهمية المدينة المقدسة ومكانتها الدينية التاريخية.

    7ـ الخلفية التاريخية للطابع المعماري التقليدي للمدينة

    بعد دراسة تاريخ وعمران مدينة كربلاء القديمة ، نلاحظ أن خصائص العمارة فيها قد تأثرت منذ نشأتها بفنون حضارة وادي الرافدين والحضارات الإسلامية المختلفة ، وخاصة خلال العهد العباسي. ويعدود ذلك إلى الأهتمام الذي

    عمارة كربلاء دراسة عمرانية وتخطيطية 270

    أولاه بعض الخلفاء العباسيين والولاة المسلمين للبلدان الإسلامية. حيث بدأت المباني في المدينة تأخذ طابعاً معمارياً مميزاً ، وخاصة روضاتها المقدسة وعمائرها الدينية ، من حيث فخامتها وأرتفاع جدرانها ومداخلها ، وكذلك وجود الساحات المكشوفة التي تعتبر من أهم العناصر المعمارية والتخطيطية للمباني في كربلاء.
    لقد بدأت ملامح مفردات فنون العمارة الإسلامية المختلفة واضحة على المباني الدينية في المدينية في تلك الحقبة من الزمن ، حيث أستعمال مفردات العمائر المختلفة ، كالفسيفساء والزخارف الآجرية والجبصية والقاشانية ، وكانت عبارة عن نقوش هندسية وكتابية بارزة أظهرت مدى التفوق في الأسلوب الزخرفي الذي ظهر في تلك الفترة الزمنية ، وهذا الفن الرفيع هو أحد دعائم الفن الإسلامي في مباني المدينة.
    يعتبر الخط العربي أحد أبرز الفنون التي أستعملت في زخرفة الواجهات الخارجية والداخلية للمباني الدينية. وكان ينقش بأسلوبين هما: الأسلوب الأول ، وهو الخط الكوفي ، نسبة إلى مدينة الكوفة في العراق ، ويتميز بحروف مستقيمة ذات زوايا حادة. والأسلوب الثاني ، وهو الخط النسخي وحروفه لينة مقوسة. ولقد أستخدم هذان النوعان بطريقة فنية رائعة ، وخاصة الخط الكوفي الذي أستعمل بكثرة في كتابة الآيات القرآنية الكريمة.
    وقد أستعمل البلاط المزجج (القاشاني) الملون في العهد العباسي ، وخاصة في القوانين الثالث والرابع للهجرة في الأبنية الدينية.
    وأنتشر هذا الفن أنحاء العالم الإٍسلامي ، وخاصة في إيران وبلاد آسيا الوسطى والشام . وكان لمدينة كربلاء دور مميز في صناعة هذه المادة وأستخدامها في إكساء وزخرفة المباني الدينية وبصورة رئيسية الروضات المقدسة.

    عمارة كربلاء دراسة عمرانية وتخطيطية 271

    وفي العهد المغولي (الأيلخاني) ، وخاصة إبان حكم الجلائريين للعراق ، تم أستخدام الزخارف الخزفية البراقة في إكساء وزخرفة الروضات المقدسة في مدينة كربلاء وخاصة مبنى الروضة الحسينية ومئذنة العبد التي كانت ملحقة بها.
    أما في العهد الصفوي ، فقد أهتم الحكام الصفويين بالروضات المقدسة وزخرفتها ، حيث استعملت البلاطات القاشانية والنقوش الآجرية والجبصية في تزينها وتزيين المباني الدينية الأخرى. وأستخدمت أيضاً المقرنصات الآجرية والجبصية كعناصر مهمة من عناصر الزخارف المعمارية. وكانت في بعض الأحيان تغطى بالبلاطات الخزفية البراقة الصغيرة المتعددة الألوان. وقد أضفت هذه الزخارف على مكان العبادة شكلاً جميلاً يؤثر في النفوس. وأستخدمت أيضاً الألواح الخشبية المشبكة الزخرفة وخاصة فوق قبري الإمام الحسين وأخيه العباس.
    وفي العهد الصفوي أيضاً ، أستخدمت لأول مرة البلاطات النحاسية المغطاة بقشرة خفيفة من الذهب في تغطية سطوح مآذن وقباب الروضات المقدسة في كربلاء والمدن الدينية الأخرى في العراق. وكان لهذا الفن دوره في إبراز المدن الدينية في الناحية المعمارية وتميزها عن المدن الأخرى.
    وقد أستعملت الزخارف الخشبية المعروفة بالشناشيل أو (المشربيات) ، وخاصة إبان فترة الأنتداب البريطاني للعراق. حيث أنتشر هذا الفن الجميل بواسطة الهنود الذين كاوا يتقنون هذه المهنة في مدينة كربلاء وبعض المدن العراقية الأخرى كبغداد والبصرة.
    وكان لمواد البناء المحلية في مدينة كربلاء أثرها الواضح في تطوير مباني المدينة من الناحية المعمارية ، وخاصة الطابوق الطيني المفخور (الآجر) والجص والبلاط القاشاني ، وقد أنتشرت صناعة هذه المواد في أرجاء المدينة وضواحيها.

    عمارة كربلاء دراسة عمرانية وتخطيطية 272

    ولم تقتصر المباني في مدينة كربلاء على استعمال مواد البناء المحلية فقط. إذ أستعمل المرمر والرخام والأحجار الملونة والأخشاب النادرة المستوردة في إكساء الكثير من مباني مدينة كربلاء وزخرفتها.

    8ـ العوامل التي أثرت على التركيبة السكانية للمدينة

    من خلال إحصاءات الحكومة العراقية ظهر أن نفوس مدينة كربلاء عام 1971م كان 213 ، 102 ألف نسمة. ووصل عام 1985م إلى 574 ، 184ألف نسمة(1).
    لذلك شهدت هذه المدينة تزايداً سكانياً بنسبة 81% وهي نسبة كبيرة مقارنة بمثيلاتها في المدن العراقية الأخرى ، وذلك نتيجة الهجرات الجماعية في الريف والمدن العراقية الأخرى وخاصة الجنوبية منها.
    ولقد أدى وجود الروضات المقدسة في هذه المدينة إلى أرتفاع الكثافة السكانية عبر جذب السكان من مناطق أخرى للأستقرار ، نظراً لتوفر فرص العمل التي يوفرها النشاط التجاري لزائري هذه المدينة ، شأنها بذلك شأن المناطق السياحية الأخرى ومراكزها الأصطياف(2).
    وخلال الحرب العراقية الإيرانية ، التي أستمرت ثماني سنوات ، مابين عامي 1980و 1988 ، لوحظ أزدياد سكان مدينة كربلاء ، وجاء هذا الأزدياد نتيجة تدفق بعض سكان المدن العراقية ، وخاصة الجنوبية منها ، للسكن والإقامة في كربلاء والمدن المقدسة العراقية الأخرى ، لمعرفة العراقيين بأن المدن المقدسة في العراق بعيدة عن القصف الإيراني ، وذلك لقدسيتها عن المسلمين الإيرانيين. علماً بأن هذه الزيادة قد حدثت بالرغم من تهجير آلاف العراقيين من سكان مدينة كربلاء إلى إيران من قبل السلطان الحكومية.

    (1) أضواء كاشفة على محافظة كربلاء ، ص : 3 ، 1971م . دائرة المعارف البريطانية ، ج6/ ص : 741.
    (2) د. فاضل الأنصاري : سكان العراق ، ص : 59و 119 ، الطبعة الإولى ، دمشق 1970م .
    عمارة كربلاء دراسة عمرانية وتخطيطية 273

    وقد تركزت معظم المجموعات السكانية الجديدة في الأحياء الحديثة التي خططت لهم خارج المدينة القديمة. أما في المدينة القديمة فقد تناقص عدد السكان للأسباب التالية :
    1ـ إن ضيق المدينة بسكانها منذ الخمسينات أدى إلى تشييد أحياء حديثة ذات بيوت واسعة مما شجع بعض أهالي المدينة القديمة للأنتقال إلى تلك الأحياء.
    2ـ نتيجة شق وتوسعه الشوارع الجديدة وخاصة في مركز المدينة ، حيث أزيلت الكثير من البيوت ، تحولت معظم الأقسام الأمامية للطوابق الأرضية من البيوت الأخرى إلى محلات تجارية لتحقيق مردود أقتصادي أكثر.
    3ـ منح الدولة للقروض منذ الخمسينات وبفوائد بسيطة لغرض البناء ، وتم بيع الأراضي بأسعار رمزية في الأحياء السكنية الحديثة.
    4ـ أرتفاع مستويات دخل السكان وخاصة في السبعينات والثمانينات مما ساعد على طلب بيوت أوسع في الأحياء الحديثة.
    5ـ بعد أنتفاضة آذار من عام 1991م تعرضت المدينة القديمة ، وخاصة مركزها ، إلى التدمير والخراب مما أجبر الكثير من السكان على الهجرة إلى المدن العراقية الأخرى وخاصة العاصمة بغداد.
    6ـ نتيجة إهمال المدينة من قبل السلطات الحكومية في بغداد وملاحقة العوائل ممن أشترك أبناؤها في الأنتفاضة ، والحصار الذي فرض على العراق من قبل الأمم المتحدة ، هاجر قسم من سكان مدينة كربلاء إلى خارج العراق وقسم آخر إلى المدن العراقية الأخرى خوفاً على حياتهم وسعياً لإيجاد فرص عمل أفضل.

    عمارة كربلاء دراسة عمرانية وتخطيطية 274

    جانب من محيط الروضة الحسينية

    السابق السابق الفهرس التالي التالي